فصل: الفصل السادس عشر (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل الثالث عشر ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

كم أخرج الموت نفساً من دارها لم يدارها، وكم أنزل أجساداً بجارها لم يجارها، وكم نقل ذاتاً ذات أخطاء بأوزارها، وكم أجرى عيوناً كالعيون بعد بعد مزارها‏.‏

يا مغرماً بوصال عيشٍ ناعـم *** ستصد عنه طائعاً أو كارهـا

إن المنية تزعج الأحرار عن *** أوطانهم والطير عن أوكارها

أخواني‏:‏ قد حام الحمام حول حماكم، وصاح بكم إذ خلا النادي وناداكم، وأولاكم من النصح حقكم، فما أحقكم بالتدبر وأولاكم، وهو عازم على اقتناصكم، وما المقصود سواكم‏.‏ كم أخلى الموت داراً فدارا‏؟‏ أما استلب كسرى بن دارا‏؟‏ أدارى لما أخذ داراً‏؟‏ أما ترك العامر قفاراً‏؟‏ أما أذاق الغصص المر مراراً‏؟‏ لقد جال يميناً ويساراً‏؟‏ فما حابى فقراً ولا يساراً‏.‏

 يا هذا، مطايا العمر قد أعنقت وأنت في مسامرة الأمل، معاول الساعات تهدم حايط الأجل، فرايس المهج في مضابث أسد المنايا، أسنة القنا مشرعة ولا درع، عقارب الخدع دائمة للسع، غير أن خدران الغفلة يمنع الإحساس بسريان السم، آه من مثاقف ما ينتهي عن القتل، الناس في الدنيا ككيزان الدولاب، فالشاب مثل الممتلي، والكهل قد فرغ بعضه، والشيخ لم يبق فيه شيء‏.‏ الشاب المتقي في مقام ‏"‏يحبهم‏"‏ والكهل المنحط في مرتبة ‏"‏خَلَطوا عملاً صالحاً‏"‏ والشيخ في حيز ‏"‏تجدني عند المنكسرة قلوبهم‏"‏‏.‏

يا من قد انطوى برد شبابه، وخبيت خلع تلفه، وبلغت سفينته ساحل سفره، قف على ثنية الوداع، فلم تبق إلا ساعة تتغنم، لو فتحت عين اليقظة لرأيت حيطان العمر قد تهدمت، فبكيت على خراب دار الأجل‏.‏ صاح ديك الإيقاظ في سحر ليل العبر، فما تيقظت فستنتبه، إذا نعق الغراب البين بين البين‏.‏

ومشتت العزمات ينفق عمره *** حيران لا ظفر ولا أخفـاق

لا في الشباب وافقت، ولا في الكهولة رافقت، ولا في الشيب أفقت، ولا من العتاب أشفقت، فكأنك ما آمنت بالمعاد ولا صدقت‏.‏

يا مقيماً على الهوى وليس بمستقيم، يا مبذراً في بضاعة العمر متى يؤنس منك رشد‏؟‏ يا أكمة البصر، لا حيلة فيها لعيسى، يا طويل الرقاد ولا نوم أهل الكهف، كيف يفلح من هو والكسل كندمائي جذيمة‏؟‏‏.‏

الدنيا مضمار سباق، والليل سرى، وطلب الراحة تحنث‏:‏

فلا تحسبوا أن المعالي رخـيصة *** ولا أن إدراك العلى هين سهـل

فما كل من يسعى إلى المجد نالـه *** ولا كل من يهوى العلا نفسه تعلو

من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر، الرجولية بالهمة لا بالصورة، نزول همة الكساح حطه في بئر الأنجاس، قنديل الفكر في محراب قلبك مظلم، فاطلب له زيت خلوة، وفتيلة عزم بينك وبين المتقين حبل الهوى، نزلوا بين يديه ونزلت خلفه، فاطو فضل منزل تلحق، لو علوت نشز الجد، بانت بانة الوادي‏.‏

للمهيار‏:‏

إن كنت ممن يطلع الوادي فسلْ*** بين البيوت عن فوادي ما فعلْ

عز هـواكِ فـأذلَّ جَـلَــدي*** والحب ما رقَّ له الجَلْـد وذلّ

أين ليالينا على الخـيف وهـل*** يرد عيشاً فائتاً قـولـك هـل

يا مقيداً بقيود الطرد، الق نفسك في الدجى على باب الذل، وقل إلهي، كم لك سواي ومالي سواك، فبفقري إليك وعناك عني، ألا عفوت عني‏.‏

أيا منعماً لم يزل محسـنـاً*** برى جسدي سخطك الدائمُ

إلى النحر مني مضمـومة*** يداي كما يفعـل الـنـادمُ

يزل الحليم ويكبو الجـواد*** وينبو عن الضربة الصارمُ

يا هذا، ليس في المياه ما يقلع آثار الذنب من ثوب القلب إلا الدموع، فإن نضبت ولم يزل الأثر فعليك بالاغتراف من بحر الاعتراف‏.‏

ودعت قلبي حين ودعتـهـم *** وقلت يا قلبي عليك السـلامُ

وصحتُ بالنوم انصرف راشداً *** فإن عيني بعدهـم لا تـنـامُ

أحضر نادي المتهجدين ونادهم طوبى لكم وجدتم قلوبكم فارحموا من لا يجد‏:‏

إذا وصلتم إلى وادي العقيق سلوا *** عن حال منقطع أودى به السهر

وفتشوا عن فؤاد هـائم قـلـق *** قد ضاع مني فلا عين ولا أثـر

أنجع الوسائل الذل، وأبلغ الأسباب في العفو البكاء، والعي عن ترتيب العذر بلاغة المنكسر‏.‏

يا من أشكو إليه ما يعـلـمـه*** والدمع يذيع كلمـا أكـتـمـه

هذا المسكين من ترى يرحمـه*** قد هان عليه كلـمـا يؤلـمـه

بالجسم من السقام ما يحرضـه*** والقلب يذوب من جوى يمرضه

ما قد حكم الإله من ينـقـضـه*** قد أعوزني الصبر فمن يقرضه

الفصل الرابع عشر ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

لقد خوفنا الموت بمن أخذ منا، ونعلم هجومه علينا وقد آمنا، ما أذكرتنا المواعظ فما لنا ما لنا‏:‏

لا ترقدن لعينك السـهـر *** وانظر إلى ما تصنع العبرُ

انظر إلى عبر مـصـرفة *** ما دام يمكن طرفك النظرُ

فإذا جهلت ولم تجد أحـداً *** فسل الزمان فعنده الخبـرُ

فإذا نظرت تريد معتـبـراً *** فانظر إليك ففيك معتبـرُ

أنت الذي تنعاه خلـقـتـه *** ينعاه منه الشعر والبشـرُ

يا من يؤمل أنت منتـظـر *** أملاً يطول ولست تنتظـرُ

ماذا تقول وأنت في غصصٍ *** ماذا تقول وذوقك الـمـدرُ

ماذا تقول وقد لحقت بـمـا *** يجري عليه الريح والمطرُ

كم قد عفتْ عين لهـا أثـر *** درستْ ويُدرس بعدها الأثرُ

يا من يشيع ببدنه الميت، فأما قلبه ففي البيت، أتخلى بين المودود والدود‏؟‏ وتعود إلى المعاصي حين تعود، هلا أجلت بالبال ذكر البالي‏؟‏ وقلت للنفس الجاهلة‏:‏ هذا لي، من زار القبور والقلب غافل وسعى بين الأجداث والفكر ذاهل وشغله عن الاعتبار لهو شاغل فهو قتيل قد أسكره القاتل‏:‏

وما أعطى الصبابة ما استحقت *** عليه ولا قضى حق المنـازل

ملاحظها بعين غير عـبـرى *** وزايرها بجسم غير نـاحـل

شيّع الحسن جنازة فجلس على شفير القبر فقال‏:‏ إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله، لحقيق أن يخاف آخره‏.‏

أخواني، كيف الأمن‏؟‏ وهذا الفاروق يقول‏:‏ لو أن لي طلاع الأرض ذهباً وفضة لافتديت بها، كيف الأمن‏؟‏ من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر‏؟‏ لما طعن عمر قال لابنه ضع خدي على التراب فوضعه فبكا حتى لصق الطين بعينيه وجعل يقول‏:‏ ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي، ودخل عليه كعب، وكان قد قال له إنك ميت إلى ثلاثة أيام، فلما رآه أنشد

وواعدني كعب ثلاثـاً بـعـدهـا *** ولا شك أن القول ما قاله كعـب

وما بي حذار الموت إني لـمـيت *** ولكن حذار الذنب الذي يتبعه الذنب

واعجباً من خوف عمر مع كماله وأمنك مع نقصانك، قيل لابن عباس‏:‏ أي رجل كان عمر‏؟‏ فقال‏:‏ كان الطائر الحذر الذي كان له بكل طريق شركاً‏.‏

يا مسدود الفهم بكثرة الشواغل أحضر قلبك لحظة للعظة، يا جامداً على وضع طبعه، تحرك إلى قطر التذكرة، يا عبد الطمع طالع ديار الأحرار، ما أطول غشية غفلتك فلمن تحدث‏؟‏ قلبك في غلاف غفلة وفطنتك في غشاوة غباوة، وحبل عزمك الجديد حديد، لو خرج عقلك من سلطان هواك، عادت الدولة عادة، لو صح مزاجك فطرتك طعم النصح في فمك، المفروض عنك مرفوض، وكلام النصيح صوت الريح‏.‏

يا تلميذ الهوى اخرج من وصف التبعية، يا مقيد الوجود في فناء الفناء قامت قيام الملامة وما تسمع، لقد ضحل صوت النصيح، ولكن صلخ صماخ السمع مانع‏.‏

يا هذا، لو وقف مرضك رجونا لك البرء، ولكن المرض يزيد وقوة العزم تضعف‏:‏

متى يلتقي الآلاف والعيس كلما *** تصعد من واد هبطن إلى واد

يا مقبلاً على المعاصي أدبرت، ويحك إذا أخرجت من يديك فمن يحصل‏؟‏ كم تعد بالتوبة ولا تفي‏؟‏ ويحك إن اللذة بالعقوبة لا تفي، ضمانك عقيم، ووعدك عاقر، إذا أقمت بناء توبة اكتريت ألف نقاض، ويحك لا تفعل، فإنه ما سحب أحد ذيل الهوى إلا وتعثر، اكتب قصة الندم بمداد الدمع، وفي الحال تصل‏:‏

سألت ودمع العين سـايل*** ودعت وداعي البين شاغل

فأجاب دمعي وهـو فـي*** صفق الأسى سحبان وائل

أعرضت عنك فما تـروم*** وبنت منك فمن تواصـل

لم يبق من سنن الـهـوى*** إلا الوقوف على المنازل

يا مشرداً عن الأوطان إلى متى ترضى بالتمردك‏؟‏ للقطاة أفحوص، ولابن آوى مأوى، منذ خمسين سنة تجدف في العبور إلى ساحل التوبة وما تلحق الشط، قوة الأمل عقدة في وجه منشار الجد، الرياء عيب في رئة الإيمان، يسل المرض إلى السل، شدة الحرص على الفاني سدة في كبد اليقين، ومن صبر على مرارة الدواء عوفي‏:‏

السقم على الجسم له تـرداد *** والصبر يقل والهوى يزداد

ما أبعد شقتي وما لـي زاد *** ما أكثر بهرجي ومالي نفاد

يا أرباب الدنس يا أوساخ الذنوب ‏"‏هذا مُغْتَسَلٌ بارد وشراب‏"‏ لا تقنعوا بصب ماء التوبة على الظاهر، بلوا الشعر وانقوا البشرة، ما لم تسبح بدمع عينيك لم تأت بسنة الغسل‏:‏

فلو داواك كل طبيب داء *** بغير كلام ليلى ما شفاكا

أبلغ المراهم لجراح الذنوب الندم، وأوطأ فراش المعتذر القلق، وأسرع الأوقات إجابة السحر، فاطرد عن عينيك لذة النوم، وناد في نادي الأسى مع القوم‏:‏

يا من بسهامه لقلبي جرحـا *** صل مشتاقاً بغيركم ما فرحا

ما ناح له مطوق أو صدحـا *** إلا شرب الدمع وعاف القدحا

يا نائماً طول الليل ما تحس برد السحر‏؟‏ لقد نم النسيم على الزهر، ودلت أغاريد الحمام، على دنو الفجر، صاح الديك فلم تنتبه، وأعاد فلم تفق، فقوى ضرب الجناحين لطماً على غفلتك‏.‏

صفق أما ارتياحه لسنا الفجر*** وأما على الـدجـا أسـفـا

يا مـطـولاً بـالـقـــيام*** مسـتـلـذاً بـالـمـنـام

قم فـقـد فــاتـــك يا*** مغبـون أربـاح الـكـرام

وخلـوا دونـك بـالـمـو*** لى وفـازوا بـالـمــرام

وكذا تـسـبـقـك الـقـو*** م إلـى دار الـســـلام

الفصل الخامس عشر ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أخواني، الدنيا دار الآفات، الإثم بقي والإلتذاذ فات، بينا نرى فيها الغصن خضراً متمايلاً ذابلاً ذابلي‏.‏

يا أيهذا الذي قـد غـره الأمـل*** ودون ما يأمل التنغيص والأجـل

ألا ترى أنما الدنـيا وزينـتـهـا*** كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا

حتوفها رصد وعيشـهـا نـكـد*** وصفوها كدر وملـكـهـا دول

تظل تفزع بالروعات ساكـنـهـا*** فما يسوغ له عـيش ولا جـذل

كأنه للمنـايا والـردى غـرض*** تظل فيه سهام الدهر تنتـضـل

والنفس هاربة والموت يتبعـهـا*** وكل عثرة رجل عندها جـلـل

والمرء يسعى بما يسعى لوارثـه*** والقبر وارث ما يسعى له الرجل

أخواني، ألبسوا الدنيا جنة الهجر، واسمعوا فيها من مواعظ لزجر، واحبسوها يوماً صممتموه للأجر، وصابروا ليل البلى فما أسرع إتيان الفجر، فلا تبيعوا اليقين بالظن فحرام بيع المجر‏.‏

لقد أبصرت عيون الفطن في نهار المشيب سبل الرحيل، وسمعت آذان الفجر بقعقعة الصلب الصلب أذان التخويل، لله در أقوام بادروا أيامهم وحاذروا آثامهم، جعلوا الصوم طعامهم والصمت كلامهم، فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى والقلوب في رياض الملكوت ترعى، قاموا لخوف القيامة بالأوامر، ووقفوا أنفسهم على الخير، ما توقفوا كالموامر، هجروا بالصيام لذيذ الهوى في الهواجر وصمت اللسان كأنه مقطوع في الحناجر بالخناجر، وجرى الدمع واصباً، حتى قد محا المحاجر، متى تطرق طريقهم‏؟‏ قبل طروق الطوارق، هذا ذئب السقام قد عوى للعوائق، يا من أعماله فيما خلا للخلائق، كم داواك الطبيب‏؟‏ وكم رقا بالرقايق‏؟‏ أين من ربا في الربى، ونما بين النمارق، أبرزهم حادي الموت لما حدا من الحدايق، وأمال مستقيمهم فالتوى فهل من هذا التوى أنت واثق‏؟‏ ويحك إن الدنيا سراب مخلف فإن وجد شراب أعطش، أزدهت فدهت على أنها تذم وتضم، كم عقدت لمحبها عقد عهدها‏؟‏ فلما حلت عنده حلت، إنها لعجوز وهي في عينك كالقمر، وقد قمر هواها قلبك فما أبقى منه إلا قلب قمر‏.‏ للشريف الرضي‏:‏

شَرَتِ الفؤادَ رخيصةً أعلاقُهُ *** ومضى يَعَضُّ بنانه المغبونُ

أفنيت عمرك في طلبها وما حصل بيدك منها إلا ما حصل بيد قيس من ليلى‏.‏

صحا كل عذري الغرام عن الهوى *** وأنت على حكم الصبـابة نـازلُ

ول الدنيا ظهرك تنص الآخرة لك نقابها، تعر عن الدنيا تعز، وخذ قدر البلغة وجز تفز، إلى متى زنبيل حرصك على كاهل همتك وأنت تسعى في مزابل طمعك، تحش وقود الحطام لنار هواك وقد أقمت موقداً من الشره لا يفتر، أما علمت أنه كلما ترقى دخان أتون الهوى في برابخ الحس سود وجه القلب، أنت في جمع الحطام نظير الزبال، وفي فعل الخير غلام الخبال عالم الهمم مختلف الأجناس هذا الشفنين لا يقرب غير زوجته أبداً، فإن ماتت لم يتزوج أبداً وكذلك الأنثى والدجاجة مع أي ديك كان‏.‏

كلامي يدور حول ستور سمعك، وموانع الهوى تحجبه أن لا يصل فلو قد وصل إلى القلب أثّر، عضت رجلاً حية فلم يعلم أنها حية فلم يتغير، فلما أخبر أنها حية مات، لأنه حين أخبر انفتحت مسامه‏.‏ فوصل السم إلى القلب‏.‏ يا أطروش الهوى صاحب من يسمع، يا عمي البصيرة امش مع من يبصر، تشبه بالصالحين تعد في الجملة، هذا الطاووس يحب البساتين فهو يوافق الأشجار، إذا ألقت ورقها ألقى ريشه، فإذا اكتست اكتسى، لو سرت في حزب المتقين خطوات لعرفوا لك حق الصحبة، يا من كان لهم رفيقاً فأصبح لا يعرف لهم طريقاً، اطلب اليوم أخبارهم واتبع في السلوك آثارهم فإن وقعت ببعضهم حملك إلى أرضهم‏.‏

للمصنف‏:‏

في شغل عن الرقاد شـاغـل*** من هاجه البرق بسفح عاقـل

يا صاحبي هذي رياح ربعهـم*** قد أخبرت شمائل الشـمـائل

نسيمهم سحيري الريح فـمـا*** تشـبـهـه روايح الأصـائل

ما للصبا مولعة بذي الصـبـا*** أو الصبا فوق الغرام القاتـل

ما للهوى العذري في ديارنـا*** أين العذيب من قصور بابـل

لا تطلبوا ثأراً بنا يا قـومـنـا*** دماؤنا في أذرع الـرواحـل

لله در العيش في ظـلالـهـم*** ولي وكم أسار في المفاصـل

واطربي إذا رأيت أرضـهـم*** هذا وفيها دميت مقـاتـلـي

يا طرة الشيح سقيت أدمعـي*** ولا ابتليت في الهوى بما بلى

ميلك عن زهو وميلي عن أساً*** ما طرب المخمور مثل الثاكل

يا من قد كثر تردده إلى المجلس ولم تزل قسوة قلبه لا تضجر، فللدوام أثر، جالس البكائين يتعد إليك حزنهم، فتأثير الصحبة لا يخفى، أما ترى دون البقل أخضر‏؟‏ يا من يشاهد ما يجري على الخائفين ولا ينزعج، أقل الأقسام أن يبكي رحمة لهم، إذا رأيت الثكلى تتقلقل فلا بد من رحمة الجنس‏.‏

للمهيار‏:‏

ولما وقفنا في الديار تشابهت *** جسومٌ براهنَّ البِلى وطلول

فباكٍ بداءٍ بين جنبيه عارفٌ *** وباكٍ بما جر الفراقُ جهول

كان العاصي قتيل عشق الدنيا، فكشف له بالمخوفات نقاب المحبوبة فسلا، ثم جليت عليه بالمشوقات محاسن الآخرة فمال الجيد إلى الجيد‏.‏

ألفيتها وللحـدا تـغـريد*** برامة إن ذكرت زرود

ولاح برق بثنيات الحمى*** تشيمه للأعين الرعـود

فمالت الأعناق منها طرباً*** كما يميل الناشد المنشود

هيهات يخفي ما به متيم*** دموعه بوجده شـهـود

أتدرون ما أوجب اصفرار هذا التائب‏؟‏ ومن أي شراب سكر هذا الشارب‏؟‏ وأي كتاب أقدم هذا الغائب‏؟‏

كلمـا زاد كـربـه*** في هوى من يحبهُ

طار نحو الحبيب من*** شدة الشوق قلـبـه

دنف كاد ينقـضـي*** بيد البين نـحـبـه

خبرونا عن العقـيق*** متى سار ركـبـه

الفصل السادس عشر ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا من نسبه معرق في الموتى، وقد وعظوه وإن لم يسمع صوتاً، أدرك أمرك فما تأمن فوتاً‏.‏

لأبي نواس‏:‏

ألا كلُّ حي هالك وابن هالـك*** وذو نسب في الهالكين عريق

فقل لغريب الدار إنك راحـلُ*** إلى منزل نأى المحل سحـيق

وما تعدم الدنيا الدنية أهلـهـا*** شواظ حريق أو دخان حريق

تجرع فيها هالكاً فقد هـالـك*** وتشجى فريقاً منهم بـفـريق

فلا تحسب الدنيا إذا ما سكنتها*** قراراً فما دنياك غير طـريق

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له*** عن عدو في ثـياب صـديق

عليك بدار لا يزال ظلالـهـا*** ولا يتأذى أهلها بـمـضـيق

فما يبلغ الراضي رضاه ببلغة*** ولا ينفع الصادي صداه بريق

يا راقداً وق أوذن بالرحيل، يا مشيد البنيان في مدارج السيول، بادر العمل قبل انقضاء العمر، لا تنس من يعد الأنفاس للقائك

وما هي إلا ليلة ثـم يومـهـا *** ويوم إلى يوم وشهر إلى شهر

مطايا يقربن الجديد إلـى الـبـلـى *** ويدنين أشلاء الصحيح إلى القـبـر

ويتركن أزواج الـغـيور لـغـيره *** ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر

يا عجباً، أما تعلم ما أمامك‏؟‏ فتهيأ للرحيل وأصلح خيامك، وتأهب للردى واقطع قطع المدى مدامك، واجتهد أن ينشر الإخلاص في المحل الأعلى أعلامك، وأحضر قلبك وسمعك وإن ملا من لامك، وإياك والفتور فإني أرى الدواء دوامك، اطلب ما شئت بالعزم وأنا زعيم لك بالظفر، من عزم على أمر هيأ آلاته، لما كان شغل الغراب الندب على الأحباب لبس السواد قبل النوح‏.‏

أنفت شقة المهامة أن تـق *** طع إلا بالشد والتـرحـال

وأبى المجد أن ينال بغير ال *** جد فلتنتبه عقول الرجـال

إذا وقعت عزيمة الإنابة في قلب من ‏"‏سبقت لهم منا الحسنى‏"‏ قلعت قواعد الهوى من مسناة الأمل، ركب ابن أدهم يوماً للصيد وقد نصب له فخ ‏"‏يهديهم ربهم‏"‏ حوله حب ‏"‏يحبهم‏"‏ فصيد قبل أن يصيد، سمع هاتفاً يقول ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت، فكانت تلك العظة شربة نقضت قولنج الهوى يا له من سهم ألقاه عن قربوسه وبوسه، كان راقد الفهم في ليل الغفلة، مشغولاً بأحلام المنى، فصيح به قم فقام، فقيل له سر فاستقام‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

رأى على الغور وميضاً فاشتاق *** ما أجلب البرق لماء الإمـاق

وعظه خطيب اليقظة فوصلت ملامته إلى سمع الأنفة، فنهضت حمية الرجولية، يا ابن أدهم مبارزة الصيد أول مراتب الشجاعة، أفترضى أن تستأسر لثعلب الهوى‏؟‏ يا ابن أدهم قتلك حب الدنيا فثر لأخذ الثأر، إن كانت لك عزيمة يا ابن أدهم فهذا الكميت وهذا الأدهم فصادف التحريض حريضاً فنهض‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

ذكرتماني طلب الـفـضـائل*** أيقظتما مني غـير غـافـل

قوما فقد مللت من إقامـتـي*** والبيض أولى بي من المعاقل

شنا بي الغـارات كـل لـيلة*** وعوداني طرف العـوامـل

إن كان لا بد من الموت فمت*** تحت ظلال الأسل الذوابـل

هتف به متقاضي الشوق‏:‏ يا ابن أدهم دخلت شهور الحج فما قعودك ببلخ‏؟‏ فرحل الراحلة وراح، لاحت له نار الهدى فصاح في جنود الهوى‏:‏ ‏"‏إنِّي آنست‏"‏ فتجلى له أنيس ‏"‏تجدني‏"‏ فغاب عن وجوده، فلما أفاق من صعقة وجده وقد دك ظور نفسه، صاح لسان الإنابة ‏"‏تُبتُ إليك‏"‏‏.‏

رويداً أيها الحـادي *** سقيت الرايح الغادي

فتلك الدار قد لاحت *** وهذا الربع والوادي

فلما خرج عن ديار الغفلة، أومأت اليقظة إلى البطالة‏.‏

لابن المعتز‏:‏

سلام على اللذات واللهو والصبى *** سلام وداع لا سـلام قـــدوم

يا ابن أدهم لو عدت إلى قصرك فعبدت فيه، قال العزم كلا ليس للمبتوتة نفقة ولا سكنى‏.‏

أحن إلى الرمل اليمانـي صـبـابة *** وهذا لعمري لو رضـيتُ كـئيب

ولو أن ما بي بالحصى فلق الحصى *** وبالريح لم يسمع لهـن هـبـوب

أمرضه التخم فاستلذ طعم الجوع، وحمل جلده على ضعف جلده خشونة الصوف

حملتم جبال الحب فوقـي وإنـنـي *** لأعجز عن حمل القميص واضعف

لاح له جمال الآخرة فتثبتت في النظر عين اليقين، فتمكن الحب من حبة القلب فقام يسعى في جمع المهر من كسب الفقر، طال عليه انتظار اللقا فصار ناطور البساتين، تقاضته المحبة باقي دينها فسلم الروح في الغربة، هذا ثمن الوصل فتأخر يا مفلس‏.‏

دون المعالي مرتقى شاهق *** فطر إلى ذروتـه أوقـع

من لم يخض غمرتها لم يشد *** قواعد المجد ولـم يرفـع

كان إبراهيم إسكندري الهمة فاحتقر قصير بلخ في جنب ما أمل، فانتخب سوابق العزم وسار في جند الجد حتى قطع ظلمات الطبع، وبلغ إلى مطلع شمس لا تغرب، شكا إليه صفاء القلب من يأجوج وساوس النفس، فاستغاث بحامي المسكن فقيل له‏:‏ شد سد العزم، فاستظهر بعد الزبر بالقطر، ثم انفرد من جند جوارحه فوقع بعين الحياة في السر فعاش بالتوفيق أبد الدهر‏.‏

أما تقومون كذا أو فاقعـدوا*** ما كل من رام السماء يصعدُ

نام على الهون الذليل ودرى*** جفن العزيز لم بات يسهـدُ

أخفهم سعـياً إلـى سـودده*** أحقهـم بـان يقـال سـيدُ

 

عن تعب أو رد سـاق أو لا *** ومسحت غرة سـبـاق يد

لو شرف الإنسان وهو وادع *** لقطع الصمصام وهو مغمدُ

الفصل السابع عشر ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

الدنيا دار المحن ودائرة الفتن، ساكنها بلا وطن واللبيب قد فطن‏.‏

للمصنف‏:‏

من مال إلى الدنيا وصبـا*** قد أمعن في الفاني طلبـا

خذ ما يبقى كيلا تشـقـى*** واتبع حقاً ودع اللـعـبـا

وذر الدنيا فلكم قـتـلـتْ*** مكراً بسهام هوى وصبـا

برت ورعت فإذا اجتمعت*** خدعت حتى قطعت إربا

يا عاشقها كم قد نصـبـت*** لهلاكك فاحذرها سبـبـا

يا آمنها كم قد سـلـبـت*** ولـداً بـراً أمـاً وأبــا

أفأين الجار أما قـد جـار*** فجارته حـتـى ذهـبـا

أم أين التراب أما تربـت*** خداه أما سكن الـتـربـا

كم خدت خداً في الأخـدود*** وقدت قداً منـتـصـبـا

كم ثغر ملتثـم ثـلـمـت*** قد كان لراشفه ضـربـا

فسقته المر لـدى جـدث*** وكذاك الدهر إذا ضربـا

وأتت قصراً يحوي نصراً*** فغدا وقصـاراه خـربـا

ومليكاً في صولة دولـتـه*** أضحى في الحفرة مغتربا

عرج بأمدار على الآثـار*** وسل طللاً أمسى شجبـا

ينبيك بـأنـهـم رحـلـوا*** وثوى من بعدهم الغربـا

بينا الإنسـان يرى رأسـاً*** فهوى رأساً فغدا ذنـبـا

فتأمـل عـاقـبة الـدنـيا*** فلعلك تصبح مجتـنـبـا

وتدبر ما صنعت فـلـقـد*** أبدت بصنايعها عـجـبـا

ينساك الأهل إذا رجعـوا*** عن قبرك لا تسمع كذبـا

تركوك أسيراً إذ ذهـبـوا*** بتراب ضريحك محتجبـا

وغدوا فرحين بما أخـذوا*** وغدوت باتمك محتقـبـا

وترى أعمالك قد حضرت*** فتنكس رأسك مكـتـئبـا

فكر في الذنب وما احتقبت*** كفاك عليك وما اكتسـبـا

كم بت على ذنب فـرحـاً*** وغدوت على ذنب طربـا

وعلمت بـأن الـلـه يرى*** فأسأت ولم تحسـن أدبـا

فأعد الزاد فمـا سـفـر*** كالموت ترى فيه نصبـا

وأفق والعمر بـه رمـق*** فكأن قد فات وقد ذهـبـا

يا كثير الدرن والدنس، يا من كلما قيل أقبل انتكس، يا من أمر بترك ما يفنى لما يبقى فعكس، جاء الأجل وحديث الأمل هوس، يا مؤثراً على الصواب عين الغلط، يا جارياً في أمره على أقبح نمط، يا مضيعاً وقته المغتم الملتقط، أي شيء بقي بعد الشمط‏؟‏ أتنسى ما سلف لك وفرط‏؟‏ وأبوك بزلة واحدة هبط، ما عندك من التوبة خير ولا لها فيك أثر، تنوب من الذنب، فإذا بدا لك بدا لك‏.‏

من علم أن عندنا حسن المآب آب، من خاف الجزاء بما في الكتاب تاب، من حذر اليم العذاب ذاب، من سار في طريق الإيجاب انجاب، من ذكر فعل الموت بالأب والجد جد، من تفكر في مرارة الكأس كاس، ويحك دع محبة الدنيا، فعابر السبيل لا يتوطن واعجباً تضيع منك حبة فتبكي وقد ضاع عمرك وأنت تضحك، تستوفي مكيال هواك وتطفف في كيل صلاتك ‏"‏ألا بُعداً لمدين‏"‏ تقف ببدنك في المحراب، ووجهك ملتفت للجراب، ما يصلح مثلك في الجرب، أنت تفضح صف الجهاد، ما تحسن الزردية على مخنث خمسين سنة في مكتب التعليم وما حذقت، أبا جاد غداً توبخ وقت عرض الألواح ‏"‏ألم نعمركم‏"‏ بضاعتك أيام عمرك وقد انتهبها قطاع الطريق، ورجعت إلى بيت الأسف بأعدال فارغة، فانظر لعله تخلف فيها شيء تعامل به، فبقية عمر المؤمن لا قيمة له‏.‏

سقيا لزماننا الذي كان لـنـا*** وافقرى أبعد ذا الفقر غنى

مر أسرع ما توقع البين بنا*** واقرب منيتي وما نلت منى

كان فضالة بن صيفي كثير البكاء، فدخل عليه رجل وهو يبكي فقال لزوجته ما شأنه‏؟‏ قالت‏:‏ زعم أنه يريد سفراً بعيداً وماله زاد‏.‏

 يا هذا الآخرة دار سكانها الأخلاق الجميلة، فصادقوا اليوم سكانها لتنزلوا عليهم يوم القدوم، فإن من قدم إلى بلد لا صديق له به نزل بالعراء، يا هذا فتى العمر في خدمة البدن وحوائج القلب كلها واقفة، انهض إلى التلافي قبل التلف، الكلف يداوى قبل أن يصير بهقاً، والبهق يلاطف قبل أن يعود برصاً، أما سمعت في بداية الزلل ‏"‏إذا مسَّهم طائف‏"‏ وفي وسطه ‏"‏كلا بل ران على قلوبهم‏"‏ وفي آخره ‏"‏أم على قلوب أقفالها‏"‏ أتبكي على معاصيك‏؟‏ والإصرار يضحك، أتخادع التوبة‏؟‏ وإنما تمكر بدينك‏.‏

رأيتُ الناس خداعـاً *** إلى جانب خـداع

يعيشون مع الـذئب *** ويبكون مع الراعي

ويحك حصل كبريت عزيمة قبل أن تقدح نار توبة وقبل نزول الحرب تملأ الكمائن ويحك، لا تطمع أن تخرج إلى فضاء قلبك حتى تتخلص من ربقات نفسك، كيف لا يفتقر إلى الرياضة لإزالة الكدر‏؟‏ من أول غذائه دم الطمث، ابك على ظلام قلبك يضيء، إذا بكت السحاب إلى الربى تنسمت‏.‏

يا هذا، تسمع بالكيمياء وما رأيته صح قط، اجمع عقاقير التوبة في بوتقة العزم، وأوقد تحتها نار الأسى على ما سلف، فإن تصعد منها نفس أسف، صار نحاس نحوسك ذهب سعادة، أترى في بستاننا اليوم أثمر‏؟‏ قد توجه صلاحه، كأني أشم ريح كبد محترقة، أي قلب قد لفحته نار الوجد‏؟‏ ففاح نسيمه، أحسن مظلوم في سلك الاعتذار خرز الذل، أحلى نطق يلج سمع القبول الاستغفار، أطرب كلام يحرك قلب الرحمة التملق‏.‏

يا من بصدودهم لقلبي جرحـوا *** وازداد بي الغرام لما نـزحـوا

ما جدت بهم وهم بهجري سمحوا *** هذا المطروح كم ترى يطـرحُ

قال عبد الله بن مرزوق لغلامه عند الموت‏:‏ احملني فاطرحني على تلك المزبلة، لعلي أموت عليها فيرى ذلي فيرحمني‏.‏

عودوا وتعطفوا على قلب كئيب *** لو جيب لبان فيه حزن ووجيب

يدعى للموت في هواكم فيجـيب *** من أمل مثل فضلكم كيف يخيب

المذنب يأوي إلى الذل والبكا كما يأوي الطفل إلى الأبوين، بكى أبوكم آدم على تفريطه حتى جرت الأودية من دموعه، كان كلما ذكر الجنة قلق، وكلما رأى الملائكة تصعد، يحترق تذكر المعاهد فحن‏.‏

والذي بالبين والبـعـدُ بـلانـي*** ما جرى ذكر الحمى إلا شجاني

حبذا أهل الحمى مـن سـاكـن*** شفني الشوق إليهم وبـرانـي

كلما رمت سـلـواً عـنـهـم*** جذب الشوق إليهم بعـنـانـي

أحسد الطير إذا طـارت إلـى*** أرضهم أو أقلعت للـطـيران

أتمنى أنـنـي أصـحـبـهـا*** نحوهم لو أنني أعطى الأمانـي

لا تزيدوني غرامـاً بـعـدكـم*** خل بي من بعدكم ما قد كفاني

ذهب العمر ولم أحـظ بـكـم*** وتقضي في تمنيكـم زمـانـي

يا خليلي احفظا عهـدي الـذي*** كنتما قبل النوى عاهدتمـانـي

واذكراني مثل ذكري لـكـمـا*** فمن الإنصاف أن لا تنسيانـي

وسلا من أنـا أهـواه عـلـى*** أي جرم صد عني وجفـانـي